بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته

دائما و أبدا و كما عهدنا أسوق إليكم رائعة أخرى من روائع شيخنا الدكتور عائض القرني يُبَيِّنُ فيها المعنى الحقيقي لكلمة(حب)، التي شابتها في زماننا عديد الشوائب، دون إطالة أترككم مع الرائعة:


۞ مقامة الحب ۞


((الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)).


قَالَ ليَ المحبوب لما زرته ** من بالباب؟ قُلتُ بالبَابِ أنَا

قالَ لي أخطأتَ تَعريف الهَوَى ** حين فرقت فيهِ بَينَنَا

ومَضَى عام فلما جِئتُهُ** أطرُقُ البَابَ عَلَيهِ موهنا

قَالَ من بالباب؟ قُلتُ انظر ** فما بالباب إلا أنتَ هُنَا

قال لي أحسَنتَ تَعريف الهَوَى ** وَعَرَفت الحُبَّ فادخُل يا أنَا

الحبّ على المحبين فرض، وبه قامت السموات والأرض، من لم يدخل جنّة الحبّ، لن ينال القُرب، بالحبّ عُبِدَ الرَّبّ، وتُرِكَ الذَّنب، وهانَ الخَطب، واحتُمِلَ الكرب.
عقل بلا حبّ لا يفكّر، وعين بلا حبّ لا تُبصِر، وسماء بلا حبّ لا تُمطِر، ورَوض بلا حبّ لا يُزهِر، وسفينة بلا حبّ لا تُبحِر.
بالحبّ تتآلف المَجَرات، وبالحبّ تدوم المسرات، بالحبّ ترتسم على الثَّغر البسمة، وتنطلق من الفجر النسمة، وتشدو الطيور بالنغمة، أرض بلا حبّ صحراء، وحديقة بلا حب جَرداء، ومُقلَة بلا حبّ عمياء، وأذن بلا حبّ صمّاء.

شكَا ألمَ الفِراق الناس قَبلي ** وروع بالجَوى حَي ومَيتُ

وأمًا مثلُ ما ضمت ضُلُوعي ** فَإنًي مَا سَمِعتُ ولا رَأيتُ

بالحبِّ تُرضع الأم وَليدَها، وتروم الناقة وحيدَها. بالحبّ يقع الوفاق، والضم والعناق، وبالحب يعمُّ السلام، والمودّة والوِئام.
الحبّ بساط القربى بين الأحباب، سِياج المودّة بين الأصحاب، بالحبّ يفهمُ الطلابُ كلامَ المعلّم، وبالحبّ يسيرُ الجيشُ وراء القائد ويتقدّم، وبالحبّ تذعن الرعيَّة، وُيعمَل بالأحكام الشرعية، تُصان الحُرُمات، وتُقَدَّس القربات.
بيت لا يقوم على الحبّ مهدوم، وجيش لا يحمل الحبّ مهزوم.
لكنَّ أعظمَ الحبّ وأجلَّه، ما جاءت به الملة. جملُ كلمة في الحبِّ قولُ الربّ: ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)). فلا تطلب حبّاً دونه.

ليس حُباً قطعةٌ معزُوفَةْ ** من يَرَاع الشاعر المُنتَحِبِ

ليسَ حُبّاً غزل يُمطِرُنَا ** في سُطُور الكاتبِ الحر الأبي

أو خطاباً بارع نمقه **واله يروي صنوف العتب

ما (قفَا نبكى) هُو الحب ** ولا ظَبيَةَ البَانِ وذكرَى زَينَبِ

ما دَرَى مَجنُونُ ليلى سِرَّهُ ** عبث ذاك هيام الصخب

إنما الحب دم تنزفه ** في سَبيل الله خَير القُربِ

أو دُمُوع ثرة تبعثها سحراً ** أصدَقُ من قَلبِ الصبي

أو سُجُودَ خَاشغ تَرسُمُهُ ** فوقَ خَذ الطين فاسجُد واقربِ

أحبّ امرؤ القيس فتاة، وأحبّ أبو جهل العزى ومناة، وأحبّ قارون الذهب، وأحبّ الرئاسة أبو لهب ، فأفلَسوا جميعاً، لأنهم أخطئوا خطأ شنيعاً.
أما حبّ بلال بن رباح ، فهو البرّ والصلاح. سُحِب على الرمضاء، فنادى ربّ الأرض والسماء، انبعث من قلب المحبّ أحد أحد، لأن في القلب إيماناً كـجبل أحد .

إذا كَانَ حب الهائمين منَ الورَى** بليلى وسَلمى يَسلُبُ اللب والعَقلا

فَمَاذَا عَسَى أن يَصنَعَ الهَائِمُ الذي ** سَرَى قَلبُهُ شَوقاً إلى العالم الأعلى

مَهر الجنة عند بلال السنة، ركعتان ودمعتان. الحبُّ لا يعترف بالألوان ولا بالأوطان، والدليل بلال و سلمان ، بلال أبيض القلب أسود البشرة، فصار بالحبّ مع البَرَرة، و أبو لهب بالبُغض طُرِدَ من أهل البيت، و سلمان نال بالحبّ جائزة: (سلمان منّا أهل البيت).
دعني من حبّ مجنون ليلى ، ومحبوب سلمى ، ومعشوق عفراء ، فلطالما لطخت بأشعارهم الطروس، وضاقت بأخبارهم النفوس، وخدعت بقصائدهم الأجيال، واتَّبعهم الضلال.
حدثني عن أنباء الأنبياء، وهم من أجل حبّ الربّ يهجرون الآباء والأبناء. فـإبراهيم يتبرأ من أبيه، و نوح من بنيه، وامرأة فرعون تلغي بنفسها عقد النكاح، لأن البقاء مع الكافر سفاح.
هذا هو عالم الحب بتضحياته، بأفراحه وأتراحه، وهو حبّ يصلك برضوان من رضاه مطلب، وعفوه مكسب.

والله ما نظَرت عيني لخيركُمُ يَا** وَاهِبَ الحُبِّ والأشواق والمُهَج

كل الذينَ رَوَوا في الحُبِّ مَلحَمَةَ ** في آخِر الصف أو في أسفَلِ الدرج

امرؤ القيس يصيح في نجد ، وقد غلبه الوَجد، (قِفا نبكِ) فإذا بكاؤه على الأطلال، وإذا دموعه تسفح على الرمال، إنه هيام العقل بلا وازع، وحَيرة الإنسان بلا رادع. ورسولنا صلى الله عليه وسلم يذوق الويلات، ويعيش النكبات، ثم ينادي مولاه في مُناجاة وإخبات، ويقول: (لَكَ العتبى حتى تَرضَى).
لا تجعل العمر في ضيعة، بشِعر عمر بن أبي ربيعة ، وهو يشكو الحبّ والصّدّ، حبّ ماذا، يا هذا؟
أما علمت أن أحد الأنصار، كان يقرأ ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ))، بتكرار، فَسُئِلَ عن المقصود، قال: لأن فيها مدح المعبود، وأنا أحبّ تلك البنود، فدخل الجنة بالمحبة، لأن الله أحبّه.

دَعنيِ أمَسِّح فَوقَ الرًوض أجفَانِي ** فالنور موقدة من بَعضِ أشجَانِي

نَسيتُ في حُبِّكُم أهلي ومُنتَجَعِي** فحبكم عن جَمِيع النَّاس ألهاني

شغلونا بالروايات الشرقيّة، والمسرحيات الغربيّة، ويل هذا الجيل ويله، سهر مع غراميات ألف ليلة وليلة. وفي الذِّكر المُنَزَّل، والحديث المُبَجَّل، مِن قصص الحب الصادقة، والمعاني الناطقة، ما يخلب اللبّ، ويستميل القلب.

الحب ليسَ روَايةً شَرقية ** بِأريجِهَا يَتَزَوَّجُ الأبطَالُ

الحب مَبدَأ دَعوَة قُدسِيَّة **فيهَا منَ النُّور العَظيم جَلالُ

أخرِجونا يا قوم من ظلمات عشق الأعراب، والهيام في الأهداب، فكلّ ما فوق التراب تراب، وأدخلونا في عالم الحب الراقي، والدّواء الواقي، الذي تطير له الأرواح، وتهتز له الأشباح، في ملكوت الخلود، وعلى بساط ربّ الوجود.

بَكَت عَينِي غَدَاةَ البين دَمعاً ** وأخرَى بالبكاء بَخِلَت علينَا

فعَاقَبتُ التي بالدَّمع ضَنَّت = بأن أغمَضتُهَا يَومَ التَقَينَا

دع حبّ هؤلاء فإنهم مرضى، وتعالَ إلى الواحد ونادِ: ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى))، ((أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)).
حمزة سيّد الشهداء يمزّق الحبّ تمزيقاً، وأنتم تهيمون بروايات غراميّة لُفِّقَت تلفيقاً، نقول: حدّثونا عن الحب عند ابن عباس ، فتذكرون لنا عشق أبي نواس ، كفى جفاء، لأنّ الزبد يذهب جُفاء.
حبّ طلحة و الزبير ، أعظم من حبّ شكسبير ؛ لأن حبّهم سطّر في بدر لمرضاة القوي العزيز، وحبّ شكسبير كتب في شوارع لندن لمراهقي الإنجليز. إن كنت يا شاعر الغرب كتبت رواية الحب بالحبر، فالصحابة سجّلوا قصص المحبّة بدم الصبر.

ومن عَجَبٍ أنِّي أحِنّ إليهِمُ ** فَأسألُ عَنهُم من لَقِيتُ وَهُم مَعيِ

وتَطلُبُهُم عَينيِ وهُم في سَوَادهِا** وَيَشتَاقُهُم قَلبِي وَهُم بين أضلُعِي

لا تدري ربما عُذِّبت بحبّك، وكُتِبَ عنك عند ربّك، هذا فراق ما بيني وبينك، ونحن نسمع من أجل امرأة بكاءك وأنينك.

ولمَّا جَعَلتُ الحب خِدناً وصَاحِباً ** تَرَكتُ الهَوَى والعِشقَ يَنتَحِبَانِ

فلا تُسمِعَنِّي شِكِسبِيرَ وَلَهوَه** ورنة عود أو غناء غَوَانِي

فَلي في رحَابِ الله مُلكٌ وَدَولَة ** أظُن السماء والأرض قد حَسَدانِي

كلما خرج علينا شاعر مخمور، فاقِدُ الشعور، حفظنا شعره في الصدور، وكتبناه في السطور، وقلنا: يا عالم هذه قصصنا الغرامية، ونسينا رسائلنا الإسلامية، وفتوحاتنا السماوية، التي أنقذت الإنسانية.
علّمني الحبَّ من سورة الرحمن، ولا تكدّر خاطري بهيام ظبية البان . أنا ما أحبّ لغة العيون، ولكن أحبّ لغة القلوب، ولا اتّباع فلتات أبي نواس والمجنون، ولكني أرتع في رياض الكتاب المكنون ((وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ)).

ومُعَنِّفي في الحُبً قلت لهُ: اتئد فَالدُّمعُ دَمعيِ والعُيُونُ عُيُونِي


الحبّ الصادق في جامعة ((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ))، والغرام الرخيص في مسرح الفنانين والفنّانات. استعرض نصوصَ الحَب في وثيقة الوحي المقدّس، لترى فيها حياة الأنفس، الحبّ الأرضي يقتل الإنسان بلا قيمة، والحبّ السماوي يدعو العبد إلى حياة مستقيمة، ليجد فضل الله ونعيمه.

أرق على أرق ومثلي أرق ** وَجَوىَ يَزيدُ وَعَبرَة تَتَرقرَق

جُهدُ الصبَابَةِ أن تَكُونَ كَمَا أرَى ** عَيناً مُسَهَّدَة وقَلباً يَخفِقُ

حبّ الكبر عند فرعون ، وحبّ الكنز عند قارون ، وحبً القتل عند شارون ، أما حبّ الجنة، فعند أبطال السُّنَّة، الذين حصلوا على أعظم مِنّة.
الجعد بن درهم ذُبح على الابتداع، وأنت تبخل بدمعة في مِحراب الاتباع.

سَقَينَاهُمُوْ كَأساً سَقَونَا بِمِثلهِا ** ولكنَّنَا كُنَّا على الموت أصبَرَا

بَلَغنَا السَّمَا جُوداً وفضلاً وسُؤدُداً ** وإنَّا لَنَرجُو فَوقَ ذَلِكَ مَظهَرَا

أتريد من الجيل أن يحبّ الملك العلام، ويصلّي خلف الإمام، ويحافظ على تكبيرة الإحرام، وأنت تُحفِّظه رباعيات الخيام، ليبلّغهم رسالة لا بَعث ولا نُشور، أعوذ بالله من تلك القشور. يا حاج! أين حَمّلة المنهاج، أما ترى كيف عَشِق الإمارةَ الحجاج، وقُتِل في البدعةِ الحلاج، وأنت من أحرص الناس على حياه، فبماذا تدخل الجنة يا أخاه.
مَن تداجي يا إبراهيم بن ناجي ، ومن تكلّم ومن تناجي، تقول: يا فؤادي رحم الله الهوى، بل قتل الله الهوى. من يشارك في ثورة الخبز، لا يحضر معركة العزّ، لمّا نسيت الأمة حبّ القلوب، واشتغلت بحبّ البطون، رضيت بالدّون، وعاشت في هون.
((وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)).
هل عند الأمة فراغ في الأزمان، تسمع صوت الحرمان، وهو ينادي:

إنَّ العُيونَ التي في طَرفِهَا حور ** قتلننا ثم لم يحيين قَتلانَا

يَصرَعنَ ذَا اللُّبِ حتى لا حِرَاكَ بِهِ ** وَهُنَّ أضعَفُ خَلقِ اللهِ إنسَانَا؟

نحن بحاجة إلى صوت خبيب بن عدي وهو يُلقي قصيدة الفداء، على خشبة الفناء، وفي إصرار وإباء، وصبر ومضاء:

ولَستُ أبَالي حين أُقتَلُ مُسلِماً** عَلَى أي جَنبٍ كَانَ في الله مصرَعِي

وذَلِكَ في ذَاتِ الإله وإن يَشَأ ** يُبَارك عَلَى أوصال شلو مُمَزَع

بارك الله فيك وفي أشلائك يا خبيب ، فأنت إلى قلوبنا حبيب، ((الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ))، اللهم اجعلنا ممّن يحبّك ويحبّ من يحبّك، ليُؤنسَنا قُربك، اللهم ازرعَ شجرة حبّك في قلوبنا، لنرى النور في دروبنا، وننجو من ذنوبنا، ونُطَهَّر من عيوبنا.

فَلَيتَكَ تَحلُو والحَيَاةُ مَريرَةٌ ** ولَيتَكَ تَرضَى والأنام غِضَابُ

وليتَ الذي بيني وبينك عَامِرٌ ** وبيني وبين العالمين خَرَابُ

إذا صَحَّ مِنكَ الود فالكل هين ** وكُلُّ الذي فَوقَ التُّرابِ تُرَابُ

وإن تعجب فعجب أن ترى شاعراً بائساً، يشكو طللاً دارساً، فهو يبكي من نار الغرام، ويشكو ألم الهيام، ولو سافرت روحه في عالمَ الملكوت، لصار حبّه عنده كالقوت. لو أدرك عنترة الإسلام ما كَبَا، وما قال: اذكري يا عبل أيام الصِّبَا.
جرير يشكو العيون السود، و بشار يشكو الصدود، و الشريف الرضى يشكو فتنة الخدود، وكأن الحياة لديهم اختصرت في امرأة حسناء، وكأن العمر يتّسع لهذا الهراء، ويحسبون أن الناس من أجلها تركوا المنام، وهجروا الطعام، إذا افتخرنا على الغرب بأن لدينا نساءً حسناوات، وفتياتٍ فاتنات، قالوا لنا: عندنا في ذلك مسارحُ ومسرحيات، ومغامراتٌ وغراميّات، لكن فخرنا على الناس أن لدينا رسالة ملأت الكون نوراً، والعالم حبوراً، والدنيا طهوراً.

نَحنُ الذين ملأنا جونا كرما ** وقد بَعَثنَا على قرآننا أمَمَا

والعَالَمُ الآخر المَشبُوه في ظُلَم ** من يَعبُدُ الجنِسَ أومن يَعبدُ الصنما