رُبَّ يومٍ بكيتُ منهُ فلما صرتُ في غيره بكيتُ عليه
قال عبدالملك بن عمير:
"رأيت رأس الحسين رضي الله عنه بين يدي ابن زياد في قصر الكوفة، ثم رأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار بين يدي معصب بن الزبير، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبدالملك بن مروان، ولم يكن بين أول الرؤوس وآخرها إلا اثنتا عشرة سنة"!
وقلت:
ومع أن عمر الإنسان يشبه الومضة في الزمان الطويل، أو مجرد قفزة حصان في حفرة أخفَتهُ، إلا أنه يرى من العِبرَ والعجائب، من الأفراح والمصائب، ومن الأحداث الجِسَام في هذا العالم ما لا يخطر على البال، ويمر به من تغير الأحوال العامة والخاصة ما لا يكاد يصدقه، يقول أبو الطيب:
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلَّبَتء
على عينه حتى يرى صدقها كذبا
فيرى الإنسان من صدق وقائع الدنيا ما يعتقده كذباً أول ما يسمع به لأنه كان في نظره مستحيلاً أو شبه مستحيل، مع أن الصحيح هو أنه لا مستحيل تحت الشمس غير المستحيل العقلي وهو وجود شريك لله عز وجل أو اجتماع النقيضين في وقت واحد كالحركة والسكون والوجود وعدم الوجود، أما غير ذلك فكل شيء قابل للتغير إلا قانون التغير نفسه، ودوام الحال من المحال، والأيام حبلى بالعجائب التي لا تخطر على البال، ولكن البشر يمدون آمالاً طوالاً وينسون قِصَرَ الآجال.
إنَّا - وفي آمالِ أنفُسِنا
طولٌ وفي أعمارنا قَصِرُ -
لنرى بأعيننِا مصارعَنا
لو كانتِ الألبابُ تعتبر
خَرِسَتء - لعَمءرُ الله - ألسُننا
لما تكلَّم فوقَها القدرُ
فكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، عَدءلٌ فينا حكمه مؤمنين بقضائه وقدره ونحن تحت رحمته عز وجل والله أرحم الراحمين.
@ @ @
وفي تقلُّبات الليالي والأيام وعِبَرِ الدهر التي تمر مَرَّ السحاب يقول شاعرنا الشعبي المشهور محمد بن لعبون رحمه الله في الدنيا وتصاريفها:
ألا يا غريم صار فيها مولع
دع الدار تفعل ما تشا من حقودها
إلى أقبل أسعدها قابله ضد ما بها
من السود انحوس الليالي وكودها
ولا تامن الصكات فيها فكم لها
تجاوز عن العادات مجرى حدودها
تساعد بها من ساعفت له ولا بقتء
على حالةٍ شاف الطنا من كمودها
فكم حَاذقٍ ما نال فيها مراده
ولا طاوعت له في مجاري سنودها
وكم ضافت الحيلات فيها على الذي
نشا ما نشا فيما نشا به حسودها
وكم طاوعت من لالها فيه صال
جبان وترخص ما غلا من نقودها
فيا الله علاّم الظواهر وما خفي
وما حل باضمار الليالي وسودها
ينصاك من لا يقدر اليوم حيله
ولا به على صكَّات بقعا ردودها
رجاً منك تفريجٍ لما حل بالحَشَا
بحالات عسرات تشعب عدودها..
@ @ @
والشعراء أكثر إحساساً ودهشة من عامة الناس، مهما كانوا عمليين كالمتنبي وحميدان الشويعر، ممن يتبنون فلسفة الواقع ويدعون للقوة والصرامة.. فحوادث الدهر أقوى وأكثر صرامة.. يقول حميدان الشويعر بعد أن شرَّق وغَرَّب وذاق وجرّب وشاخ وتعب:
بالعون منيفٍ قاله لي
يقول غلاك يوم أنت صبي
وكذَّبتء منيفٍ في قوله
وتبين لي ما كان غَبِي
ترى الشايب عند عياله
وأم عياله مثل العزبي
كلوا فيده وعافَوُهء
عَقبء التمسّك بسببي
حتى أم عيالي زهدتء بي
نسيت جميلي وطربي
أمنوّل تقول لي لبَّيه
وهالحين تقول لي وش تبي؟!
وراسي وعظامي توجعني
وظهيري من حدّ حقبي
وهجوسي تسري بالليل
خوفٍ من موتي بطلبي
صدَّرَتء وطويت العدّه
ويعقبني من كان يبي
الدنيا عامرها دامر
ما فيها خير يا عربي!
@ @ @
ويقول عمرو بن الحارث بن مضاض، من شعراء الجاهلية، وكان يسكن مع قومه في مكة ويسمرون ويسعدون ثم عدا عليهم الدهر ففرقهم شذر مذر وأبادهم إلا قليلاً منهم:
يقول حين رأى مكة بعد غياب، وتذكر حوادث الليالي ومصائر الأحباب:
كأنء لم يكُنء بين الحجُونِ إلى الصفا
أنيسٌ ولم يسمر بمكةَ سامِرُ
بلى نحنُ كُنَّا أهلُها فَأَبادنا
صروف الليالي والحظوظُ العواثِرُ
@ @ @
ومن أجمل ما قيل في وصف الليالي والأيام قول النمر بن تولب:
فيومٌ علينا ويومٌ لنا
ويومٌ نُسَاءُ ويومٌ نُسَرّ
وقولُ المتنبي:
أبداً تسترِدُّ ما تَهَبُ الدنيا
فياليت جودها كان بخلا..
وهي معشوقةٌ على الغَدءرِ لا تحفظ عهداً ولا تُتَمَّمُ وصلا..
وإذا الشيخ قال أُفٍ فما ملَّ الحياةَ ولكِن الضعفً ملاَّ
وقول الآخر:
لا تخدعنَّكَ بعد طولِ تجاربٍ
دنيا تَغُرُّ بوصلها.. وستقطعُ
أحلامُ نومٍ أو كظِلًّ زائلٍ
إنَّ اللبيبَ بمثلِها لا يُخدَعُ
وكان عمر بن عبدالعزيز يردد البيت الأخير كثيراً..
وإذا كانت الحياة تشبه النوم وأحداثها كأنها أحلام فإن الشريف الرضي يقول لا مشكلة في ذلك ولكن المشكلة أن الحياة تشبه النوم المروع المُفءزِع لما فيه من كوابيس:
يقولونَ ماشِ الدهرَ مِن حيثُ ما مشى
فكيف بماشٍ أستقيم ويَظءلَعُ؟
وما وَاثِقء بالدهرِ إلا كراقدٍ
على فَضءلِ ثوبِ الظلَّ والظِّلُّ يُسءرِعُ
وقالوا: تعلَّل إنما العيشُ نَومَةٌ
تُقّضَى ويمضي طارقُ الهمِّ أَجمَعٌ
ولو كان نوماً ساكناً لحمدتُهُ
ولكنَّهُ نومٌ مَرُوعٌ مَفَزِّعُ
ومع هذا فللشريف سياسة للدنيا يقول عنها:
قِفء موقفَ الشكِّ لا يأسٌ ولا طَمَعُ
وغالط العيشَ لا صَبّرٌ ولا حَزَعُ
وخادعِ القلبَ لا يُودِ الغليلُ ربِهِ
إن كان قلبٌ عنِ الماضيِن يَنءخَدِعُ
وكاذِبِ النفسَ يمتدُّ الرجاءُ لها
إنَّ الرجاءَ بَصَدءقِ النفسِ ينقطع
@ @ @
ومن أجمل مواقف الكرام مع تقلبات الدهر موقف هدبة بن الخشرم حين قال:
ولستُ بَمِفءرَاحً إذا الدهرُ سًرَّني
ولا جازع مِن صًرّفِهِ المُتقَلِّبِ
ولستُ بباغي الشرَّ والشرُّ تاركي
ولكنء متى أحءمَلء على الشرِّ أَركَب!